ميزان العدالة يرجح كفة البراءة، محمد أبركان ينتصر على التهم بفضل قوة الدفاع ونبل القضاء.

في مشهد قضائي قل نظيره، وتحت أنظار القانون الذي لا ينام، أسدل الستار عن واحدة من أبرز القضايا المعروضة أمام غرفة الجنايات الاستئنافية بمحكمة الاستئناف بفاس، والتي كان المتهم فيها محمد أبركان، إذ قضت الهيئة الموقرة ببراءته من جناية الارتشاء والابتزاز ومخالفة ضوابط التعمير، بعد أن سبق أن أدانته غرفة الجنايات الابتدائية بنفس المحكمة بعقوبة سالبة للحرية، وهو ما أحدث صدى واسعاً في الأوساط القانونية والرأي العام، لما حمله القرار من قوة في التعليل ورسوخ في الاقتناع، مستنداً إلى ميزان الدليل لا إلى رياح التأويل.
وهذه القضية كانت منذ بدايتها، محط جدل قانوني حاد ونقاشات معمقة، حيث كانت الاتهامات الموجهة إلى أبركان خطيرة تمس جوهر الوظيفة العمومية وشرف المسؤولية، إذ تم تحميله مسؤولية تسلم رشى تتعلق برخص البناء والسكن والربط بشبكات الماء والكهرباء، دون أن تثبت له في أي مرحلة من مراحل التحقيق أو المحاكمة، سلطة توقيع أو صلاحية منح تلك الرخص. وعبثاً حاولت النيابة العامة إثبات واقعة الإثراء غير المشروع، عبر شهادات اعتبرتها المحكمة لاحقا غير مؤهلة قانوناً لحمل صفة الشاهد، لأن من يقع في خصومة لا يكون شاهداً، بل خصماً.
وقد استندت الهيئة القضائية في قرارها إلى ما هو أرسخ من الكلمات وأقوى من الادعاءات وهو إلى الدليل، الذي وصفه مونتسكيو ذات يوم بأنه الفيصل الذي يسكت كل جدل وإلى روح القانون، كما نادى بها فقهاء القانون الجنائي في مختلف المذاهب، فمن خلال مراجعة دقيقة لتصريحات الشهود الذين اعتمدت عليهم المحكمة الابتدائية، تبين أن أقوالهم لم تكن سوى مرايا مهشمة لا تعكس الحقيقة، وأن ما ادعاه الطرف المدني، محمد زرهوني، كان مشوبا بعداوة سياسية موثقة بأحكام قضائية، وحزازات انتخابية معلومة، وهو ما أضعف موضوعية شهادته، وسحب عنها طابع الحياد الذي يفترض في الشاهد.
وإن ما يحمد للهيئة القضائية الاستئنافية، ليس فقط تصحيحها لما اعتور الحكم الابتدائي من خلل في التكييف وتسرع في الإدانة، بل امتلاكها لشجاعة الموقف القضائي الحر، الذي لا يهادن الهوى ولا يُساير رغبة الانتقام السياسي، إذ قررت أن تبني قناعتها على ما جاء في الملف من وثائق وقرائن وليس على ما تم تداوله من شائعات أو مزاعم خصوم الأمس، وفي هذا السياق تبرز شهادة بن يعقوب حجاري، المستشار بجماعة إعزانن، باعتبارها مفتاحا حاسما في البراءة، حيث أكد أمام قاضي التحقيق أن المعني بالأمر لا يملك صلاحية توقيع رخص التعمير، وأن هذه المهام موكولة قانوناً لموظف معين ومفوض، وبالتالي سقط عنصر الركن المادي في جريمة الارتشاء، وهو ما يجعل من الإدانة السابقة بناء بلا أساس.
واتضح من وقائع الملف أن العارض لم يوقع على أي رخصة سكن ولا بناء ولا ربط مائي أو كهربائي، ولم تقدم أي وثيقة واحدة تثبت تورطه المباشر أو غير المباشر في تسليمها، بل إن تصريحات المتهمين الآخرين بن يعقوب حجاري وأحمد شلام وحاجي محمد عززت هذا الطرح، بعدما اقتنعت المحكمة ببراءتهم، رغم أن قاضي التحقيق كان قد تابعهم بالمشاركة، فكيف يدان من لم تثبت له الصلاحية، ويبرأ من كانت بيده مفاتيح التعمير.
وقد عبر دفاع المتهم، والمكون من ثلة من المحامين المرموقين، عن أرقى صور المرافعة، حيث مزجوا بين النص القانوني المجرد وروح العدالة، وأبدعوا في تحليلاتهم ودفوعاتهم التي زلزلت أركان الادعاء، فصاغوا مرافعات تشبه النحت في صخر الحقيقة، مؤكدين أن المحامي لا يدافع عن مجرم بل عن الإنسان في هشاشته، مستحضرين بذلك فلسفة الدفاع العادل، حيث تكون الغاية ليس الانتصار وإنما إنقاد القانون من الانهيار، وقد قال أحدهم في معرض مرافعته،ليست البراءة مجرد حكم، بل هي صرخة في وجه الظلم، حينما يتحول الشاهد إلى خصم، والدليل إلى تهيؤ ذهني.
ومن المثير في هذا الملف، أن المحكمة لم تغفل عن مسألة قانونية عميقة تتعلق بصحة الشهادة، حينما أشارت إلى مخالفة قرار الإدانة الابتدائي لمقتضيات الفقرة الثانية من المادة 325 من قانون المسطرة الجنائية، التي تمنع أن يكون الشاهد أحد أطراف الخصومة، وأن من لا يُبلغ عن جريمة ارتشاء، ويزعم لاحقاً وقوعها دون إثبات، يكون نفسه محط مساءلة قانونية بموجب الفصل 299 من القانون الجنائي، كما أن الفصل 251 من نفس القانون لا يميّز بين الراشي والمرتشي في حال ثبوت دفع أو تلقي مقابل، مما يجعل المطالب بالحق المدني ومن اعتبرتهم المحكمة الابتدائية شهوداً، في وضعية قضائية حرجة لم تُواجه بالجدية القانونية اللازمة.
وفي المحصلة، فإن المحكمة استندت إلى فلسفة قانونية عميقة مفادها أن العدالة ليست فقط في معاقبة الجناة، بل في منع إدانة الأبرياء، وأن القانون إذا لم يحمي الأبرياء، فليس سوى أداة انتقام باسم الدولة، ومن هذا المنطلق، قررت إلغاء الحكم الابتدائي القاضي بإدانة المتهم من أجل الارتشاء، وقضت ببراءته، بعدما تبين أن ملفه خال من أي دليل يُعتد به قانوناً لإدانته.
أما بخصوص باقي التهم، ومنها التزوير واستغلال النفوذ والغدر والبناء بدون رخصة، فقد قررت المحكمة تأييد ما جاء في الحكم الابتدائي من حيث عدم قيام عناصرها القانونية والواقعية، معتبرة أن الملف لا يتضمن ما يثبت إقدام المتهم على تزوير محررات رسمية، أو قيامه ببناءات فوق الملك العمومي، أو تحقيقه أية منفعة خاصة نتيجة لموقعه الإداري.
صفوة القول أن المحكمة في هذه النازلة انتصرت لمبادئ العدالة والإنصاف، وكرّست من خلال قرارها أن القضاء المغربي، حين يتحرر من ضغط الانطباعات والضغائن، ويستلهم قوة النص وروح القانون، فإنه يصوغ أحكاماً تكتب بمداد الثقة في مؤسسات الدولة، وتعيد إلى القانون هيبته، وإلى المتقاضين إيمانهم بأن المحاكم هي ملاذ العدل لا ميدان التصفية، ولعلنا نستحضر هنا قولة مونتسكيو الخالدة أن العدالة هي الروح التي تجعل القوانين إنسانية، وقد كانت كذلك في قضية محمد أبركان.