بركان .. أين الحكمة في البلاغ البوتشيشي؟ أَمْ تَحْسَبُونَ أَنَّ السِّيَاسَةَ تَجْتَثُّ النُّورَ؟

لَمْ يَكُنْ مِنَ المَأمُولِ أَنْ تَنْزَلِقَ زَاوِيَةٌ صُوفِيَّةٌ عَرِيقَةٌ كَزَاوِيَةِ مَدَاغ، إِلَى مَوَاقِعِ الرَّدِّ السِّيَاسِيِّ الَّذِي تَسُودُهُ لُغَةُ التَّوَجُّسِ وَالتَّخْوِينِ، وَهِيَ الَّتِي أَشْرَقَ نُورُهَا عَلَى خَلَائِقٍ تَرَبَّوْا فِي حِضْنِ الذِّكْرِ، وَتَذَوَّقُوا الْأَدَبَ وَالتَّجَرُّدَ، وَحَسِبُوهَا مَلَاذًا رُوحِيًّا لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَمَا عِندَهُ.

فَبِدُونِ سَابِقِ إِنْذَارٍ، جَاءَ بَلَاغُ الطَّرِيقَةِ الْمَنْشُورُ يَوْمَ الثَّامِنِ مِنْ أَبْرِيلَ، مُحَمَّلًا بِلُغَةٍ غَلِيظَةٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ، تَسْتَعِيرُ مِنْ مُعْجَمِ السِّيَاسَةِ كَلِمَاتٍ كَـ”الاختِرَاق”، وَ”الأَبْوَاق”، وَ”الْعِدَاءِ الْخَفِيِّ”، وَتُشِيرُ صَرَاحَةً إِلَى أَنَّ “الزَّاويَةَ تَعْرِفُ مَا يُدَبَّرُ لَهَا”، فَيَبْدُو الْبَيَانُ وَكَأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ تَنْظِيمٍ دِفَاعِيٍّ، لَا عَنْ مَؤَسَّسَةٍ تَرْبَوِيَّةٍ ذَوْقِيَّةٍ.

وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنْ يَجْتَرِئَ نَاصُّو الْبَيَانِ عَلَى اتِّهَامِ مَنْتَدَى إِعْلَامِيٍّ وَطَنِيٍّ، مَرْخَصٍ لَهُ مِنْ طَرَفِ السُّلُطَاتِ الْمَغْرِبِيَّةِ، بِأَنَّهُ “غَيْرُ مَرْخَصٍ”، فَكَيْفَ تَخْفَى هَذِهِ الْمَعْلُومَةُ الْبَدِيهِيَّةُ عَلَى الْقَائِمِينَ عَلَى شُؤُونِ الزَّاويَةِ؟ أَلَا يُوجَدُ بَيْنَهُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يُنَبِّهُهُمْ إِلَى خَطُورَةِ الْخَوْضِ فِي مَجَالٍ لَيْسَ مِنْ اِخْتِصَاصِهِمْ، وَأَنَّ تَزْوِيرَ الْمَعْلُومَاتِ يُفْقِدُ الْمُؤَسَّسَةَ مِصْدَاقِيَّتَهَا، وَيُدْخِلُهَا فِي خِضَمِّ سِجَالٍ لَا يَتَنَاغَمُ مَعَ رُوحِهَا؟

إِنَّ هَذَا الْخُرُوجَ الْمُفَاجِئَ عَنِ النَّهْجِ الصُّوفِيِّ، جَعَلَ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَابِعِينَ، وَفِي طَلِيعَتِهِمْ الْمُرِيدُونَ الْمُخْلِصُونَ، يَتَسَاءَلُونَ: أَهذِهِ هِيَ الزَّاويَةُ الَّتِي كَانَ يَقُولُ فِيهَا الشَّيْخُ سِيدِي حَمْزَة: “اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْمَرِيِّدِ، لَيْسَ الْمَرِيِّدُ هُوَ مَنْ يَأْتِي إِلَى اللَّهِ”؟ أَهذِهِ هِيَ الزَّاويَةُ الَّتِي كَانَ يَقُولُ شُيُوخُهَا: “دَعْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا نَخُوضُ فِي السِّيَاسَةِ”؟

وَفِي خِضَمِّ هَذَا كُلِّهِ، لَا يَسَعُنَا إِلَّا أَنْ نُجَدِّدَ التَّعْظِيمَ وَالدُّعَاءَ لِلشَّيْخِ سِيدِي جَمَالِ الدِّينِ الْقَادِرِيِّ الْبُوتَشِيشِيِّ، سَائِلِينَ اللهَ لَهُ شِفَاءً تَامًّا لَا يُغَادِرُ سَقَمًا، فَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُرَبِّي، وَالْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ، وَالْمُؤَلِّفُ الْعَلَّامَةُ، وَمَحَبَّتُهُ فِي الْقُلُوبِ رَاسِخَةٌ، وَمَكَانَتُهُ فِي قُلُوبِ الْمُرِيدِينَ لَا يُنَازِعُهَا أَحَدٌ.

وَنُثَمِّنُ بِالْغَايَةِ الرِّعَايَةَ الْمَلَكِيَّةَ السَّامِيَةَ الَّتِي أَحَاطَ بِهَا جَلَالَةُ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ السَّادِسِ نَصَرَهُ اللهُ، هَذَا الْوَلِيَّ الْمَرِيضَ، فَلَيْسَ غَرِيبًا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَكُونَ سَنَدًا لِأَهْلِ اللَّهِ، وَحَامِيًا لِلتَّصَوُّفِ الْمَغْرِبِيِّ الرَّصِينِ.

وَقَدْ قَالَ جَلَالَتُهُ فِي أَحَدِ خُطَبِهِ: “إِنَّنَا نُرِيدُ دِينًا يَجْمَعُ وَلَا يُفَرِّقُ، يُسَاعِدُ عَلَى التَّنْمِيَةِ وَلَا يُعِيقُهَا، يُوَفِّقُ بَيْنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَحُبِّ الْوَطَنِ.”

فَكَيْفَ تُقْحِمُ بَعْضُ الْأَقْلَامِ الزَّاويَةَ فِي خَلْقِ خُصُومَاتٍ مَعَ صُحُفٍ وَطَنِيَّةٍ، بِلَا تَثَبُّتٍ، وَبِلَا مَعْرِفَةٍ، وَتُطْلِقُ عَلَيْهَا صِفَاتٍ لَا تَصْلُحُ لَا دِينًا وَلَا قَانُونًا؟

لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ عَلَى الطَّرِيقَةِ أَنْ تَتَّهِمَ “الْجَزَائِرَ” بِـ”الاخْتِرَاقِ الرُّوحِيِّ”، فَهَلْ نَسِيَ أَهْلُ الزَّاويَةِ أَنَّ أَغْلَبَ مَا يَتَرَنَّمُونَ بِهِ مِنْ قَصَائِدٍ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ، هُوَ مِنْ تُرَاثِ الشُّيُوخِ الْجَزَائِرِيِّينَ، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لَا الْحَصْرِ:

  • قَصِيدَةُ “قُلْ لِلَّذِي لَامَنِي فِي هَوَاكُمْ” لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ مُصْطَفَى الْعَلَوِيِّ،
  • “أَيَّا مُرِيدَ اللهِ”،
  • “نُعِيدُ لَكَ
  • ⁠ قَوْلِي صَغَاهُ”،
  • “أَهْلُ اللهِ راهم حَازُوا”،
  • وَ”أَحِبَّتِي إِنْ كُنْتُمْ عَلَ.

فَأَيُّ اخْتِرَاقٍ هَذَا؟ أَلَيْسَ هَذَا التُّرَاثُ الرُّوحِيُّ الْجَزَائِرِيُّ قَدْ صَارَ جُزْءًا مِنْ هُوِيَّةِ الذِّكْرِ الْبُوتَشِيشِيِّ؟ وَهَلْ نَكْفُرُ بِمَا أَغْنَانَا؟

قَالَ سَيِّدُنَا ابْنُ عَطَاءَ اللهِ السَّكَنْدَرِيُّ: “ادْفِنْ وُجُودَكَ فِي أَرْضِ الْخُمُولِ، فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدْفَنْ لَا يَتِمُّ نَتَاجُهُ، فَأَيْنَ الْخُمُولُ مِنَ الظُّهُورِ الْفَجِّ؟ وَأَيْنَ السِّرُّ مِنَ الْجَلَبَةِ؟ وَأَيْنَ الزَّهْدُ مِنَ الْخَوْضِ فِي أَعْرَاضِ الْعِبَادِ؟

إِنَّ مَنْ يُحِبُّ الزَّاويَةَ صَادِقًا، لَا يُقْحِمُهَا فِي خِصَامٍ لَيْسَ لَهَا، وَلَا يُزَجُّ بِهَا فِي خَنَادِقَ السِّيَاسَةِ، وَلَا يُقِيمُ حُرُوبًا نِيَابَةً عَنْهَا.

إِنَّ تَرْبِيَةَ الْقُلُوبِ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ تَتَدَهْوَرَ إِلَى لُغَةِ التَّهْدِيدِ وَالتَّشْهِيرِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ خَطَإٍ وُقِعَ، فَالتَّصْوِيبُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِصْرَارِ.

وَاللَّهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِالْحُرِّيَّةِ، وَلَا يُطْلَبُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَالزَّاويَةُ، مَا دَامَتْ ذَاكِرَةً، فَهِيَ لِكُلِّ الذَّاكرِينَ.

َمِمَّا أَثَارَ دَهْشَةَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَابِعِينَ، أَنْ يَسْتَغِلَّ بَلَاغُ الزَّاويَةِ رِسَالَةَ سَيِّدَةٍ فَرَنْسِيَّةٍ، قِيلَ إِنَّهَا “مُتَابَعَةٌ بِتُهَمٍ خَيَالِيَّةٍ” فِي تِلْكَ السُّطُورِ الَّتِي تَدَاوَلَهَا النَّاسُ، لِيَجْعَلَ مِنْهَا مُنْطَلَقًا لِرَدٍّ مَحْمُومٍ يَزُجُّ فِيهِ الزَّاويَةَ فِي مَقَامِ مُسَاءَلَةٍ لِمُسْتَوَيَاتٍ عَلْيَا فِي الدَّوْلَةِ.

فَهَلْ تُرِيدُ الزَّاويَةُ أَنْ تَصِيرَ هِيَ الْجِهَةَ الَّتِي تُحَدِّدُ لِلدَّوْلَةِ مَنْ تَسْتَقْبِلُ، وَمَنْ تَرْفُضُ؟ وَهَلْ نُصِّبَتْ لِتَكُونَ وَصِيَّةً عَلَى التَّوَاصُلِ الرَّسْمِيِّ؟ أَمْ أَنَّ لِلدَّوْلَةِ سِيَادَتَهَا وَطَرِيقَتَهَا فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْوَضْعِيَّاتِ، وَلَا تَنْتَظِرُ إِذْنًا مِنْ هَيْئَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي تَدْبِيرِ سِيَاسَاتِهَا؟

فَإِنْ كَانَتِ الزَّاويَةُ تَرَى أَنَّ ذِكْرَ أَسْمَائِهَا فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ يُشَكِّلُ “اخْتِرَاقًا” أَوْ “مُؤَامَرَةً”، فَهَذَا يُحِيلُنَا إِلَى خَطَرِ نَصْبِ أَنْفُسِنَا فَوْقَ الْمُسَاءَلَةِ، وَبَدَلًا مِنْ أَنْ تَكُونَ الزَّاويَةُ بَابًا لِلْحِكْمَةِ وَالتَّسَامُحِ، تُصْبِحُ خَصْمًا يُلَوِّحُ بِالْقُوَى وَيُضْمِرُ التَّهْمَةَ فِي كُلِّ نَقْدٍ.

وَلَيْسَ مِنَ الرَّشَادِ أَنْ يُقْحِمَ بَلَاغٌ طُرُقِيٌّ “جِهَاتٍ عُلْيَا” فِي شُؤُونٍ جَانِبِيَّةٍ، تُدَارُ بِالْقَنَاةِ الرَّسْمِيَّةِ وَالْمُؤَسَّسِيَّةِ، لَا بِبَيَانَاتٍ تَحْسِبُ النَّفْسَ مَحْوَرَ الدُّنْيَا، وَتَظُنُّ أَنَّ التَّارِيخَ يُكْتَبُ مِنْ سَطْرِهَا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى