الشيخ كمال رزقي الشرقاوي القادري.. منارة الزاوية ببوسكورة وجامع شمل الأخوة الروحية بين المغرب والجزائر

في بوسكورة، حيث تستقر الزاوية القادرية الرازقية شامخة كمنار روحي يشع بأنوار الذكر والمحبة، جرى حدث استثنائي حمل في طياته دلالات عميقة تتجاوز حدود الزمان والمكان. ففي رحاب هذه الزاوية المباركة، وتحت أنفاس شيخها العارف بالله سيدي كمال الشرقاوي القادري، الذي وقف حياته على خدمة التصوف وتجديد معانيه في النفوس، كان الموعد مع لحظة روحية نادرة: تسليم شعرة مباركة من شعر سيد الخلق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلى الشريف عبد الرحمان حمادي الإدريسي القادم خصيصًا من الجزائر الشقيقة. لم يكن الأمر مجرد انتقال لبركة نبوية شريفة من يد إلى أخرى، بل تجسد كرمز حيّ يعيد وصل ما انقطع بين القلوب، ويعيد إحياء تاريخ طويل من الروابط الصوفية التي جمعت بين المغرب والجزائر منذ قرون.

هذا المشهد الروحي لم يأت في فراغ، بل حمل في مضمونه صدى سياسي واجتماعي عميق. فمنذ سنوات، ظل جلالة الملك محمد السادس يؤكد في خطاباته السامية على مفهوم “اليد الممدودة” تجاه الأشقاء الجزائريين، باعتبارها عنوانًا لرغبة صادقة في تجاوز الحواجز الظرفية وبناء مستقبل مشترك قائم على الثقة والإخاء. ما وقع في بوسكورة لم يكن إلا امتدادًا عمليًا لهذه الدعوة الملكية، حيث تلاقت اليد السياسية الممتدة من أعلى هرم الدولة مع اليد الروحية التي جسدتها هذه المبادرة المباركة. وهكذا بدا واضحًا أن التصوف المغربي لا يزال قادرًا، بعمقه القيمي ورمزيته الجامعة، أن يكون جسرًا استراتيجيًا يجمع بين الشعوب حيث قد تفشل الدبلوماسية الرسمية وحدها.

الزاوية القادرية الرازقية ببوسكورة ليست مؤسسة عابرة أو مقرًا محليًا للذاكرين، بل هي فضاء كوني يتسع للباحثين عن الصفاء من مختلف البقاع. لقد استطاعت أن ترسخ حضورها كمنارة للتصوف المغربي الأصيل، حيث يتقاطر إليها المريدون من داخل المملكة وخارجها طلبًا للسكينة واستمدادًا من نفحات الروح. وهي بذلك امتداد لمسار طويل سطره رجال صدقوا العهد مع الله، فجعلوا من الزوايا مدارس لتربية النفوس، ومراكز لنشر العلم، ومحطات لبناء إنسان يوازن بين الروح والمادة. وفي قلب هذا المسار يقف الشيخ كمال الشرقاوي القادري، الذي أعاد الاعتبار لقيم التزكية والصفاء، وجعل من زاويته ملتقى للأرواح الساعية إلى الحق، وملجأ لكل من أنهكته صراعات العصر وضجيج الماديات.

أما اللقاء مع الشريف عبد الرحمان حمادي الإدريسي القادم من الجزائر فلم يكن حدثًا بروتوكوليًا أو مبادرة فردية، بل هو فعل اجتماعي وسياسي عميق يُعيد التأكيد على أن الروابط الروحية أقوى من كل الفواصل التي صنعتها الجغرافيا أو الظروف السياسية. فعندما يلتقي المغاربة والجزائريون في رحاب الذكر والمودة، تتهاوى الحواجز وتستعيد القلوب قدرتها على بناء الجسور التي عجزت عنها الحسابات الضيقة.

وهكذا تتحول الزاوية القادرية الرازقية ببوسكورة إلى فضاء رمزي عابر للحدود، تنصهر فيه المشاعر الصادقة على أرضية مشتركة قوامها الذكر والمحبة، لتذوب الفوارق أمام المعاني الكبرى: الأخوة الصادقة، الصفاء الروحي، ووحدة الأمة. إن ما حدث يبرهن على أن الرموز الروحية لا تظل حبيسة التاريخ، بل تستعيد حضورها الفاعل حين تتجسد في وقائع ملموسة، وتبرهن أن للروح منطقها الخاص في الاجتماع والسياسة، منطق لا يُقاس بحدود الخرائط بل بمدى استعداد الإنسان للانفتاح على أخيه الإنسان.

ومن هنا، يتضح أن مبادرة الشيخ سيدي كمال الشرقاوي القادري لم تكن مجرد التفاتة صوفية عابرة، بل خطوة ذات دلالات عميقة في بناء صرح جديد من التواصل بين المغرب والجزائر، صرح تلتقي فيه الحكمة الدينية مع الرؤية السياسية، والصفاء الروحي مع إرادة الدولة. إنه مشهد يختصر الأمل في مستقبل واعد عنوانه الوحدة والأخوة، ويؤكد أن الدبلوماسية الروحية، حين تقترن باليد الممدودة رسميًا، قادرة على فتح أبواب الغد على مصاريعها. ولعل الدعاء الصادق في هذا المقام أن يحفظ الله المغرب والجزائر وسائر بلاد المسلمين، وأن يكتب لهذه اللحظة الرمزية أن تتحول إلى بداية لمسار دائم من الوصل والتلاقي، في ظل رعاية أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيّده، لتبقى الأمة جسدًا واحدًا وروحًا واحدة لا تفرقها حدود ولا تمزقها خلافات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى